فصل: ذكر قتل ابن القرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل وما جرى له ولأصحابه:

ولما انهزم عبد الرحمن من مسكين سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمداً وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعةً، فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالاً شديداً على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، وانهزم عمارة وترك لهم العقبة.
وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم، فدخل بعض أهل الشام قصراً في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري، وهي طويلة:
أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً ** ويا حر الفؤاد لما لقينا

تركنا الدين والدنيا جميعاً ** وأسلمنا الحلائل والبنينا

فما كنا بناسٍ أهل دينٍ ** فنصبر في البلاء إذا ابتلينا

فما كنا بناسٍ أهل دنيا ** فمنمنعها ولو لم نرج دينا

نتركنا دورنا لطغام عكٍ ** وأنباط القرى والأشعرينا

فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله، وقد هيأ له نزلاً فنزل، ثم رحل إلى سجستان فأتى رزنج وفيها عامله فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياماً ليفتحها فلم يصل إليها، فسار إلى بست، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام الدوسي الشيباني، فاستقبله وأنزله، فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج.
وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه ليستقبله، فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول: والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلاً من شعر لا أبرح حتى أستذلك وأقتلك وجميع من معك، وأسبي ذراريكم، وأغنم أموالكم. فاستأمنه عياض، فأطلق عبد الرحمن، فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل.
ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفاً ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها، وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم، وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإلى أن قدم عبد الرحمن. فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم، ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال لعبد الرحمن أصحابه: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يويد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. قالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا.
فشار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة القرشي في ألفين، فقال لهم عبد الرحمن: إني كنت في مأمن وملجإٍ فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم إنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده.
فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه، ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب.
وقيل: إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن العابس سجستان، فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين أفاً فنزل هراة، ولقوا الرقاد فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة، فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك، وأن أردت مالاً أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة.
وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجبابة، وبلغ ذلك يزيد فقال: من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج. فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت وزيادة فاخرج عني فإني أكره قتالك. فأبى إلا القتال، وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد فقال: جل المر عن العتاب؛ ثم تقدم إليه فقاتله، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا، وأمر يزيد أصحابه بالكف عن أتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسوا منهم أسرى، وكان منهم: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعباس بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي.
ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند، واتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد إلى مرو وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة، فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة؟ فال يزيد: غنه الحجاج ولا يتعرض له. قال: وطن نفسك على العزل ولا ترسل به فإن له عندنا يداً. قال: وما هي؟ قال: ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه. فأطلقه يزيد، ولم يرسل يزيد أيضاً عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين.
فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط. فقال لحاجبه: ائتني بسيدهم. فقال لفيروز: قم. فقام، فأحضره عنده. فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس. قال: اكتب إلي أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف، فذكر مالاً كثيراً. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي.
قال: فأدها. قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك. قال: والله لا يجمع بين دمي ومالي. فأمر به فنحي.
ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له: يا ظل الشيطان! أعظم الناس تيهاً وكبراً تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم ضربت مؤذناً؟ وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة! يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك، يعني ابن الأشعث، وتشرب معه في الحمام! فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبجمالك وبفضلك، وغن عاقبت ظلمت مذنبين. فقال الحجاج: أما أنها شملت البر فكذبت، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك فعسى أن ينفعك؛ ورجال له الناس السلامة، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه. فأمر به فقتل. ثم دعا عبد الله بن عامر، فلما أتاه قال له الحجاج: لا رأت عينك الجنة إن أفلت! فقال: جزى الله ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ** وقاد نحوك في أغلالها مضرا

وقى بقومك ورد الموت أسرته ** وكان قومك أدنى عنده خطرا

فأطرق الحجاج ووقرت في قله وقال: وما أنت وذاك؟ فأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق يجر عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبداً، فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال.
فأعلم الحجاج، فقال: أظهره. فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل.
وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي، وكان شريفاً، وأمر بإحضار أعشى همدان، فقال: إيه عدو الله! أنشدني قولك بين الأشبح وبين قيس. قال: بل أنشدك ما قلت لك. قال: بل أنشدني هذه. فأنشده:
أبى الله إلا أن يتمم نوره ** ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا

ويظهر أهل الحق في كل موطنٍ ** ويعدل وقع السيف من كان أصيدا

وينزل ذلاً بالعاق وأهله ** كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا

وما أحدثوا من بدعةٍ وعظيمةٍ ** من القول لم تصعد إلى الله مصعدا

وما نكثوا من بيعةٍ بعد بيعةٍ ** إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا

وجبناً حشاه ربهم في قلوبهم ** فما يقربون الناس إلا تهددا

فلا صدق في قولٍ ولا صبر عندهم ** ولكن فخراً فيهم وتزيدا

فكيف رأيت الله فرق جمعهم ** ومزقهم عرض البلاد وشردا

فقتلاهم قتلى ضلالٍ وفتنةٍ ** وجيشهم أمسى ذليلاً مطردا

ولما زحفنا لابن يوسف غدوةً ** وأبرق منه العارضان وأرعدا

قطعنا إليه الخندقين وإنما ** قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا

فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ** كفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا

بصفٍ كأن الموت في حجزاتهم ** إذا ما تجلى بيضه وتوقدا

دلفنا إليه في صفوفٍ كأنها ** جبال شرورى أو نعافٍ فشهمدا

فما لبث الحجاج أن سل سيفه ** علينا فولى جمعنا وتبددا

وما زاحف الحجاج أن سل سفه ** علينا فولى جمعنا وتبددا

وما زاحف الحجاج إلا رأيته ** معاناً ملقى للفتوح معودا

وإن ابن عباسٍ لفي مرجحنةٍ ** أشبهها قطعاً من الليل أسودا

فما شرعوا رمحاً ولا جردوا ظبىً ** ألا إنما لاقى الجبان مجردا

وكرت علينا خيل سفيان كرةً ** بفرسانها والشمري مقصدا

وسفيان يهديها كأن لواءها ** من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا

كهول ومرد من قضاعة حوله ** مساعير أبطال إذا النكس عردا

إذا قال شدوا شدةً حملوا معاً ** فأنهل خرصان الرماح وأوردا

جنود أمير المؤمنين وخيله ** وسلطانه أمسى عزيزاً مؤيدا

ليهن أمير المؤمنين ظهوره ** على أمةٍ كانوا سعاه وحسدا

تروا يشتكون البغي من أمرئهم ** وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا

وجدنا بني مروان خير أئمةٍ ** وأفضل هذا الناس حلماً وسوددا

وخير قريشٍ أرومةً ** وأكرمهم إلا النبي محمدا

إذا ما تدبرنا عواقب أمره ** وجدنا أمير المؤمنين مسددا

سيغلب قوماً حاربوا الله جهرةً ** وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا

كذاك يضل الله من كان قبله ** مريضاً ومن والى النفاق وحشدا

وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ** وبيضاً عليهن الجلابيب خردا

يناديهم مستعبراتٍ إليهم ** ويذرين دمعاً في الخدود وإثمدا

أنكثاً وعصياناً وغدراً وذلةً ** أهان الإله من أهان وأبعدا

لقد شأم المصرين فرخ محمدٍ ** بحقٍ وما لاقى من الطير أسعدا

كما شأم الله النجير وأهله ** بجدٍ له قد كان أشقى وأنكدا

فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير. فقال الحجاج: لا لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها. ثم قال: يا عدو الله! والله لا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف أن لا يكون ظهر وظفر، وتحريصاً لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنشدنا قولك بين الأشج وبين قيس باذخ، فأنشده، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولد قال الحجاج: والله لا تبخبخ بعدها أبداً! فضربت عنقه.
قوله في هذه الأبيات: ابن عباس، هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد تقدم ذكره. وقوله: سفيان، هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية.
وقوله: فرخ محمد، هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وقوله: الأشبح، هو محمد بن الأشعث. وقوله: بين قيس، هو معقل بن قيس الرياحي، وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه.
وقوله: كما سأم الله النجير وأهله بجدٍ له، يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه كندة، فلما حاربهم المسلمون وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم، وقد تقدم ذكر ذلك في قتال أهل الردة.
قيل: وأتي الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عند يداً. قال: وما هي؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوماً أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر، فسأله الحجاج فصدقه، فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعني البغض لك ولقومك. قال: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه.
قيل: جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال: أنا فلان بن فلان، قتل جدي يوم بدر وقتل جدي فلان يوم أحد، وجعل يذكر مناقب سلفه، فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال: هذه المناقب والله لا يوم مسكن ويم الجماجم ويم راهط! وأنشد:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

.ذكر ما جرى للشعبي مع الحجاج:

لما انهزم أصحاب عبد الرحمن بالجماجم نادى منادي الحجاج: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو آمن، وكان قد ولاه الري وسار إليه؛ فلحق به ناس كثير، وكان منهم الشعبي، فذكره الحجاج يوماً فسأل عنه، فقال له يزيد بن أبي مسلم: إنه لحق بقتيبة بالري، فكتب الحجاج إلى قتيبة يأمره بإرسال الشعبي، فأرسله.
قال الشعبي: فلما قدمت على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم، وكان صديقاً لي، فاستشرته فقال: اعتذر مهما استطعت، وأشار بمثل ذلك إخواني ونصائحي، فلما دخلت على الحجاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه بالإمرة وقتل: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا لحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأنقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا بقطر سيفه من دمائنا، قم يقول: ما فعلت ولا شهدت، وقد أمنت يا شعبي، كيف وجدت الناس بعدنا؟ فقلت: أصلح الله الأمير اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف ياشعبي. فانصرفت.

.ذكر خلع عمر بن أبي الصلت بالري وما كان منه:

لما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبي الصلت، وكان قد غلب على الري في تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالري أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون عن أنفسهم عثرة الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه أبا الصلت، وكان به باراً، فأشار عليه بذلك وألزمه به وقال له: يا بني إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبابي أن تقتل غداً. ففعل.
فلما قارب قتيبة الري بلغه الخبر فاستعد لقتاله، فالتقوا واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهبذ وأكرمه وأحسن إليه. فقال عمر لأبيه: إنك أمرتني بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك، وكان خلاف رأيي فلم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا العلج الأصبهبذ فدعني حتى أثب عليه فأقتله وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أني أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا الرجل آوانا ونحن خائفون، وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم وسترى.
ودخل قتيبة الري وكتب إلى الحجاج بخبر عمر وانهزامه إلى طبرستان، فكتب الحجاج إلى الأصبهبذ: أن ابعث بهم أو برؤوسهم وإلا فقد برئت منك الذمة. فصنع لهم الأصبهبذ طعاماً وأحضرهما، فقتل عمر وبعث أباه أسيراً، وقيل: بل قتلهما وبعث برؤوسهما.

.ذكر بناء مدينة واسط:

وفي هذه السنة بني الحجاج واسطاً.
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرش، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلاً، فطرق الباب طارق ودقة دقاً شديداً، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شراً، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال لها زوجها: ائذني له، فأذنت له، فقتله زوجها، فلما أذن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك عند الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه.
ففعلت فأحضرت عند الحجاج فأخبرته، فقال: صدقتني. وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلن أحد على أحد.
وكان الحجاج قد أنزل أهل الشام على اهل الكوفة، فخرج أهل الشام فعسكروا، وبعث رواداً يرتادون له منزلاً، وأقبل حتى نزل موضع واسط، فإذا راهب قد أقبل على حمار له، فلما كان بموضع واسط بال الحمار فنزل الراهب فاحتفر ذلك البول واحتمله ورماه في دجلة والحجاج يراه. فقال: علي به. فأتي به. فقال: ما حملك على ما صنعته؟ قال: نجد في الكتب أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد في ذلك الموضع.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان من المدينة، في قول بعضهم، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل. وكان العمال هذه السنة سوى المدينة الذين تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
قيل: وكان الحجاج قد سير نساءه وأهله إلى الشام خوفاً من عبد الرحمن بن الأشعث وفيهن أخته زينب التي ذكرها النمير في شعره، فلما هزم ابن الشعث أرسل البشير إلى عبد الملك بذلك وكتب كتاباً إلى أخته زينب، فأخذت الكتاب وهر راكبة فنفرت البغلة من قعقعة الكتاب فسقطت زينب فماتت.
وفي هذه السنة توفي واثلة بن الأسقع، وهو ابن خمس ومائة سنة، وقيل: مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة. وفيها مات زربن جبيش وعمره مائة وانتان وعشرون سنة. وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وكان مولده سنة إحدى من الهجرة. ثم دخلت:

.سنة أربع وثمانين:

.ذكر قتل ابن القرية:

وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان مع ابن الأشعث بدير الجماجم، فلما هزم ابن الأشعث التحق أيوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج، فقال له: أقلني عشرتي واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة، فقال الحجاج: كلا والله لأزيرنك جهنم. قال: فأرحني فإني أجد حرها! فأمر به فضربت عنقه. فلما رآه قتيلاً قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه.

.ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيس:

في هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون، فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع زامنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيماً لها؛ وقال كعب بم معدان الأشقري يذكرها:
وباذغيس التي من حل ذروتها ** عز الملوك فإن شا جار أو ظلما

منيعة لم يكدها قبله ملك ** إلا إذا واجهت جيشاً له وجما

تخال نيرانها من بعد منظرها ** بعض النجوم إذا ما ليلها عتما

وهي أبيات عدة؛ وقال أيضاً يذكر يزيد وفتحها:
نفى نيزكاً عن باذغيس ونيزك ** بمنزلةٍ أعيا الملوك اغتصابها

محلقةٍ دون السماء كأنها ** غمامة صيفٍ زال عنها سحابها

ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى ** ولا الطير إلا نسرها وعقابها

وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ** ولا نبحت إلا النجوم كلابها

في أبيات غيرها.
فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح- وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل- إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفةً وأسرنا طائفةً ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، فأهضام الغيطان وأثناء الأنهار. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إليه بحمله على البريد. فقدم إليه أفصح الناس. فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فهذه الفصاحة من أين؟ قال: حفظت من كلام أبي، وكان فصيحاً. قال: أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيراً. قال: ففلان؟ قال: نعم. قال: فأخبرني هل ألحن؟ قال: نعم تلحن لحناً خفياً، تزيد حرفاً وتنقص حرفاً وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثاً فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.